نهضت الأم منكسرة وضعت عباءتها المرصعة باليأس وبين يديها ابنها الوحيد
وفي فكرها ذكريات والده الراحل ، والخوف والغموض والفقر .
تتحرك الأزمنة في مكان نهوضها و هي هنا على حافة النار و الجرح ، تسمع الخطى من زمانها تمر على شكل موجات صوتية آتية من أذغال الوجد
يمر شبح و بعده شبح آخر ، و تتشكل الأشباح حكايات .فيأتي المسافر الجديد بالحبال ، يأتي شاردا و في جعبته بقايا أمل و فرح . و سناء تتأهب للسفر ، كانت وحيدة في رحلتها
و معها ابنها الوحيد . تلم شتات ذاكرتها و تقف حائرة تحاول أن ترصد الإتجاه ، هي تكتب الحكاية بعين مخيلتها ، تكتب حكاية سناء الأرملة .
خرجت قاصدة بلدتها ، هناك حيث مسقط رأسها و التي لم تزرها منذ تزوجها و من هنا كانت بداية قصة حبها مع المرحوم زوجها ، هي الآن كالثعالب حين تموت
غالبا ما تيمم وجوهها نحو عرين ولادتها . قصدت السيدة سناء السوق الأسبوعي المجاور هناك حيث ستستقل الحافلة في اتجاه بلدتها
بين أزقة السوق حكايا مجتمع و اقتصاد و كدح . الرئيس و التاجر و المؤذن و المثقفون و الجمعيات و الأحزاب و البسطاء و النصابون و الكادحون
كلهم لا يعرفون حكاية الأرملة سناء و لا واقع نهارها المختلط بالليل ، كلهم لا يعرفون رغم ما يتحملونه من مسؤولية ، كلهم مشغولون بقضاياهم الخاصة .
الشاوش يستنكر غلاء البطاطيس و الطماطم المستخدمون يناضلون بوقفاتهم الإحتجاجية من أجل خبز يابس و ربما من أجل توفير حد أدنى لسد الرمق
السيد النقابي يقتات من دفاعه المزيف عن الطبقة العاملة و المسحوقة .السيد النائب يبحث عن خادمة لتساعد زوجته الموظفة . و السيد الوزير
و الصحافي الموالي له ينددان بالأساتذة و الممرضين و الأطباء لكثرة احتجاجاتهم .
و مقدم الحي يشتم جريدة المعارضة التي تنشر مسابقة الديكة و الكلاب و تهتم بالدعاية للمثليين و تخلت عن نشر أخبار الوطن .
و أمام خيمة بائع الزيوت جَمعُُ من النساء و هن يتحدثن عن غلاء المعيشة، و عن مسلسلات البطلة التركية التي تعرضها التلفزة هذه الأيام .
في الزقاق الآخر سيد و سيدة يتلامسان في خضم زحام بشري جارف و يتبادلان النظرات رغم عدم تعارفهما .
و هناك في مكان مخصص لأصحاب الحلقة الشعبية تجمهر على شكل دائري نفر من المتسوقين و هم يتابعون حكواتي و هو يسرد
قصة سيدنا يوسف تارة و أخرى قصة سيدنا إبراهيم فيوقف حكيه من أجل جمع دريهمات ، كان المشهد يلخص حياة مجتمع بأكملها .
أما السيدة سناء كانت تمر متفرسة في وجوه كل هؤلاء و تحمل بين ذراعيها إبنها الوحيد و في قلبها أحزان السنين
و هي تبكي في صمت و هدوء مصابها الجلل و ما تخبئه لها الأيام . ركبت إحدى الحافلات المتجهة صوب بلدتها و في الطريق عاشت لحظات استذكار
و ذكريات قديمة / جديدة .تعلم جيدا أن ما تبقي لها في بلدتها هي أمها و أخوها عبدالله ذاك الرجل الأربعيني ، و تمنت أن تجدهما على خير
لقد اشتاقت اليهما كثيرا ، في الطريق أعادت شريط حياتها بتلك البلدة فتذكرت المرحوم أبيها فأجهشت بالبكاء ، ذرفت دموعا حارقة للقلب
و الوجدان و هي تعيد صور والدها الحنون الذي سقاها نخب حب أبوي لن تنساها كان لها نعم الصديق و نعم الرفيق بل نعم الأب حماها من كل مكائد الزمان
و علمها كيف تحافظ على أنوثتها مهما تكالبت عليها الظروف و الأزمان .
كان لها مدرسة فعلمها أبجدية الحياة ، بل كان لها حصنها المنيع الذي يقيها من كل الهزات الإجتماعية و النفسية فوفر لها بذلك الأمن و الأمان ، و مع هذه الذكريات
كانت دموعها تنهمر كسيل جارف و طفلها يبحلق في عينيها و هو لا يعلم ما تحمله الأم المكلومة .
بعد لحظات تقدمت سيدة ثلاثينية مغيرة مكانها و جلست قربها ، فقالت لها :
- أنا أميمة ، بالله عليك أختي لقد آلمت دواخلي و حطمت قلبي و أنا أراقب دموعك المنهمرة ما بك ؟
أجابتها :
- دعيني أختي فأنا أحترق .
قالت :
- إرحمي نفسك بل إرحمي هذا الطفل الذي يتابع أحزانك في صمت .هل فعلها بك الرجل ؟
أجابتها بعد أن سحبت نفسا طويلا ثم تنهدت :
و ماذا بيدك أن تفعليه لأجلي أو لأجل هذا الطفل
قالت :
أختاه نحن بشر و حالتك هذه تستدعي المؤازرة ، بل نحن مسلمون و المسلم ينبغي أن يكون لأخيه المسلم أفضل معين ، و لا تدري ربما أحمل اليك البشرى التي انتظرتيها طويلا
أجابتها :
أي بشرى تنظرها شابة مثلي في مقتبل العمر فترملت ، فقدت زوجها ، فقدت أباها ، فقدت حصنها المنيع و ملاذها .
قالت :
تلك مشيئة الرحمن ، و لست الأولى و لن تكوني الأخيرة ، أغلبهن ( النساء ) يعشن قصصا مماثلة ، لكن إذا تسلحن بطريق الله و تعاليمه نجون و إذا تزحزحن عنها هلكن
و كان مصيرهن البؤس و الأحزان و الضنك.
أجابتها قائلة بعد أن تنهدت تنهيدة ملؤها الرجاء :
و نعم بالله .
فأحست بقبس من نور يداهم تلك الظلمة التي عاشت أطوارها ثم حكت لها حكايتها من ألفها الى يائها و الحافلة تمخر عباب التضاريس الوعرة
و تزحف بين منعرجات ذاك الطريق الجبلي .
فجأة أطلت قريتها بوجهها الصبوح فصاحت أميمة ها نحن على مشارف البلدة إستعدي للنزول و اعلمي أنك ستنزلين الليلة ضيفة عندي .
أسرت سناء على ترك صديقتها أميمة الى يوم آخر و ستزورها فطلبت منها عنوانها . انتبهت سناء أن هذا العنوان لا يبعد عن سكنى أمها فأكدت لأميمة ذلك .
نزلا من الحافلة و مشيا جنبا الى جنب في نفس الطريق .
سناء : أنت بنت دربي إذن
اميمة : أنا من بلاد الغربة صادفت زوجي أول مرة عند دخول أسرتي هذه القرية فتزوجنا
سناء :
سأكون سعيدة بزيارتك قريبا إن شاء الله ، و اعلمي حبيبتي أنك أصيلة و بنت أصول لقد كنتِ رحمة نزلت على قلبي من السماء في وقت أظلمت الدنيا أمامي .
تابعا طريقها في حوارهما الشيق فكانت المفاجأة كبيرة حين استوقفهما رجل أربعيني فحيى أميمة بتحية حارة ، و حين وقع بصره على سناء و وقع بصر سناء عليه اندهشا
فصرخت سناء : أخي عبدالله
ثم ارتمت في أحضانه و تعانقا طويلا و دمعت عيناهما معا ، أخبرها بوفاة الوالدة ، و أخبرته بوفاة زوجها ، كان العتاب متبادلا بينهما على عدم إيصال الرحم بينهما
كل هذا تحت أنظار أميمة و هي تبكي في ذهول هذا اللقاء المدهش..! . ( انتهى )
No comments:
Post a Comment